فصل: تفسير الآية رقم (65)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ ‏(‏38‏)‏ إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ‏}‏ الآية، نزلت في الحث على غزوة تبوك، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم، وكان ذلك في زمان عسرة من الناس، وشدة من الحر، حين طابت الثمار والظلال، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا، ومفاوز هائلة، وعدوًا كثيرًا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فشقّ عليهم الخروج وتثاقلوا فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ‏}‏ أي‏:‏ قال لكم رسول الله صلى الله‏:‏ ‏{‏انْفِرُوا‏}‏ أخرجوا في سبيل الله ‏{‏اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْض‏}‏ أي‏:‏ لزمتم أرضكم ومساكنكم، ‏{‏أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ‏}‏ أي‏:‏ بخفض الدنيا ودعتها من نعيم الآخرة‏.‏ ‏{‏فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ‏}‏‏.‏

ثم أوعدهم على ترك الجهاد، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ هو احتباس المطر عنهم في الدنيا‏.‏ وسأل نجدة بن نفيع ابن عباس عن هذه الآية، فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حيًّا من أحياء العرب، فتثاقلوا عليه، فأمسك عنهم المطر، فكان ذلك عذابهم ‏{‏وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ‏}‏ خيرًا منكم وأطوع‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ هم أبناء فارس‏.‏ وقيل‏:‏ هم أهل اليمن، ‏{‏وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا‏}‏ بترككم النفير‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ‏}‏ هذا إعلام من الله عز وجل أنه المتكفل بنصر رسوله وإعزاز دينه، أعانوه أو لم يعينوه، وأنه قد نصره عند قلة الأولياء، وكثرة الأعداء، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العَدَد والعُدَد‏؟‏ ‏{‏إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ من مكة حين مكروا به وأرادوا تبيينه وهموا بقتله، ‏{‏ثَانِيَ اثْنَيْنِ‏}‏ أي هو أحد الاثنين، والاثنان‏:‏ أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ‏{‏إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ‏}‏ وهو نقب في جبل ثور بمكة، ‏{‏إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا‏}‏ قال الشعبي‏:‏ عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏

أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان، أنبأنا خيثمة بن سليمان، حدثنا أحمد بن عبد الله الدورقي، حدثنا سعيد بن سليمان، عن علي بن هاشم عن كثير النَّوَّاء عن جُمَيْع بن عُمَيْر قال‏:‏ أتيت ابن عمر رضي الله عنهما فسمعته يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏أنت صاحبي في الغار، وصاحبي على الحوض‏"‏‏.‏

قال الحسين بن الفضل‏:‏ مَنْ قال إن أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكاره نص القرآن‏.‏ وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا، لا يكون كافرًا‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا‏}‏ لم يكن حزن أبي بكر جُبْنًا منه، وإنما كان إشفاقًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال‏:‏ إن أقتل فأنا رجل واحد وإن قُتِلْتَ هلكت الأمة وروي أنه حين انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار جعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ مالك يا أبا بكر‏؟‏ قال‏:‏ أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فلما انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الغار، فدخل فاستبرأه ثم قال‏:‏ انزل يا رسول الله، فنزل فقال عمر‏:‏ والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر‏.‏

أخبرنا أبو المظفر التميمي، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي النظر، أخبرنا خيثمة بن سليمان، حدثنا أبو قلابة الرقاشي، حدثنا حيان بن هلال، حدثنا همام بن يحيى، حدثنا ثابت البناني، حدثنا أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدَّثهم، قال‏:‏ نظرتُ إلى أقدام المشركين فوق رؤوسنا ونحن في الغار فقلت‏:‏ يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا، فقال‏:‏ يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما‏؟‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب‏:‏ فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت‏:‏ لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمرّ علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا، فلما ابتلي المسلمون‏.‏‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين‏:‏ ‏"‏إني أريت دار هجرتكم، ذات نخل، بين لابتين وهما الحرتان‏"‏‏.‏ فهاجر مَنْ هاجر قِبَل المدينة ورجع عامة مَنْ كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قِبَل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏على رِسْلِكَ فإني أرجو أن يؤذن لي‏"‏ فقال أبو بكر‏:‏ وهل ترجو ذلك بأبي أنت‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏ فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين- كانتا عنده- ورق السَّمُر، وهو الخبْط، أربعة أشهر‏.‏

قال ابن شهاب‏.‏ قال عروة‏:‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نَحْرِ الظهيرة، قال قائل لأبي بكر‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَقَنِّعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر‏:‏ فداءً له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت‏:‏ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر‏:‏ أَخْرِجْ مَنْ عندك، فقال أبو بكر‏:‏ إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال‏:‏ ‏"‏فإني قد أذن لي في الخروج‏"‏ فقال أبو بكر‏:‏ الصحبة بأبي أنت يا رسول الله‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏ قال أبو بكر‏:‏ فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتيَّ هاتين، قال رسول الله‏:‏ ‏"‏بالثمن‏"‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فجهزناهما أحَثَّ الجهاز، وصنعنا لهما سُفْرَةً في جِرَابٍ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، قالت‏:‏ ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة، كبائت فيها، فلا يسمع أمرًا يُُكَادَانِ به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَةَ، مولى أبي بكر، مِنْحَةً من غنمٍ، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْلٍ، وهو لبن منحتهما وَرَضِيفُهُمَا حتى يَنْعِقَ بهما عامر بن فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الدِّيل، وهو من بني عبد بن عدي هاديًا خِرِّيتًا، والخِرِّيتُ‏:‏ الماهر بالهداية، قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فَأَمِنَاهُ، فدفعا إليه راحلتيهما وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فُهَيْرَةَ والدليل فأخذ بهم على طريق السواحل‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ وأخبرني عبد الرحمن بن مالك الْمُدْلِجِيّ، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جُعْشُم‏:‏ أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول‏:‏ جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم، حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال‏:‏ يا سراقة إني قد رأيت آنفا أَسْوِدَةً بالساحل أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة‏:‏ فعرفت أنهم هم، فقلت له‏:‏ إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثتُ في المجلس ساعة، ثم قمتُ فدخلت البيت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة، فتحبسها عليّ، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزُجِّه الأرض، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا‏؟‏ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت

من الحبس عنهم أن سيظهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له‏:‏ إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم خبر ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني شيئا إلا أن قالا أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فُهَيْرَةَ فكتب في رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته‏:‏ يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسَّسَ المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدًا للتمر، لسهيل وسهل، غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته‏:‏ هذا إن شاء الله المنزل‏.‏ ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فَسَاوَمَهُمَا بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا بل نهبه لك يا رسول الله، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول الله ينقل معهم اللّبِنَ في بنيانه ويقول وهو ينقل اللّبن‏:‏ هذا الحِمَالُ لا حِمَالُ خَيْبَرْ هذا أبَرّ ربنا وأَطْهَرْ

ويقول‏:‏ اللهم إن الأجر أجر الآخره فارحم الأنصار والمهاجره

فتمثل ببيت رجلٍ من المسلمين لم يسمَّ لي‏.‏

قال ابن شهاب‏:‏ ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات‏.‏

قال الزهري‏:‏ لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الغار أرسل الله تعالى زوجا من حمام حتى باضا في أسفل النقب، والعنكبوت حتى نسجت بيتا، وفي القصة‏:‏ أنبت يمامة على فم الغار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم أعمِ أبصارهم عنّا فجعل الطلب يضربون يمينا وشمالا حول الغار يقولون‏:‏ لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ‏}‏ قيل‏:‏ على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ على أبي بكر رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل، ‏{‏وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا‏}‏ وهم الملائكة نزلوا يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته‏.‏ وقيل‏:‏ ألقوا الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا‏.‏ وقال مجاهد والكلبي‏:‏ أعانه بالملائكة يوم بدر، أخبر أنه صرف عنه كيد الأعداء في الغار ثم أظهر نصره بالملائكة يوم بدر‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى‏}‏ وكلمتهم الشرك، وهي السفلى إلى يوم القيامة، ‏{‏وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا‏}‏ إلى يوم القيامة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هي قول لا إله إلا الله‏.‏ وقيل كلمة الذين كفروا‏:‏ ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه، وكلمة الله‏:‏ وعد الله أنه ناصره‏.‏ وقرأ يعقوب‏:‏ ‏{‏وَكَلِمَةَ اللَّهِ‏}‏ بنصب التاء على العطف ‏{‏وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا‏}‏ قال الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة‏:‏ شبانا وشيوخا‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ نشاطا وغير نشاط‏.‏ وقال عطية العوفي‏:‏ ركبانا ومشاة‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ خفافا من المال، أي فقراء، وثقالا أي‏:‏ أغنياء‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الثقيل الذي له الضيعة، فهو ثقيل يكره أن يدع ضيعته، والخفيف الذي لا ضيعة له‏.‏ ويروى عن ابن عباس قال‏:‏ خفافا أهل الميسرة من المال، وثقالا أهل العسرة‏.‏ وقيل‏:‏ خفافا من السلاح، أي‏:‏ مقلين منه، وثقالا أي‏:‏ مستكثرين منه‏.‏ وقال الحكم بن عتيبة‏:‏ مشاغيل وغير مشاغيل‏.‏ وقال مرة الهمذاني‏:‏ أصحاء ومرضى‏.‏ وقال يمان بن رباب‏:‏ عزابا ومتأهلين‏.‏ وقيل‏:‏ خفافا من حاشيتكم وأتباعكم، وثقالا مستكثرين بهم‏.‏ وقيل‏:‏ خفافا مسرعين خارجين ساعة سماع النفير، وثقالا بعد التروي فيه والاستعداد له‏.‏

‏{‏وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ قال الزهري‏:‏ خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له‏:‏ إنك عليل صاحب ضر، فقال‏:‏ استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثَّرت السواد وحفظت المتاع‏.‏

وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس‏:‏ نُسخت هذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏‏.‏

وقال السدي‏:‏ لما نزلت هذه الآية اشتد شأنها على الناس فنسخها الله تعالى وأنزل‏:‏ ‏{‏ليس على الضعفاء ولا على المرضى‏}‏ الآية‏.‏

ثم نزل في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك‏:‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 46‏]‏

‏{‏لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏42‏)‏ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏43‏)‏ لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏44‏)‏ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ‏(‏45‏)‏ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا‏}‏ واسم كان مضمر، أي‏:‏ لو كان ما تدعونهم إليه عرضا قريبا، أي‏:‏ غنيمة قريبة المتناول، ‏{‏وَسَفَرًا قَاصِدًا‏}‏ أي قريبا هينا، ‏{‏لاتَّبَعُوك‏}‏ لخرجوا معك، ‏{‏وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ‏}‏ أي‏:‏ المسافة، والشقة‏:‏ السفر البعيد، لأنه يشق على الإنسان‏.‏ وقيل‏:‏ الشقة الغاية التي يقصدونها، ‏{‏وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ يعني باليمين الكاذبة، ‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ في أيمانهم وإيمانهم، لأنهم كانوا مستطيعين‏.‏

‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنْكَ‏}‏ قال عمرو بن ميمون‏:‏ اثنان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما‏:‏ إذنه للمنافقين، وأخذه الفدية من أسارى بدر، فعاتبه الله كما تسمعون‏.‏

قال سفيان بن عيينة‏:‏ انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل أن يعيره بالذنب‏.‏

وقيل‏:‏ إن الله عز وجل وقَّره ورفع محله بافتتاح الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمن يخاطبه إذا كان كريما عنده‏:‏ عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي‏؟‏ ورضي الله عنك ألا زرتني‏.‏ وقيل معناه‏:‏ أدام الله لك العفو‏.‏

‏{‏لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ في التخلف عنك ‏{‏حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا‏}‏ في أعذارهم، ‏{‏وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ‏}‏ فيها، أي‏:‏ تعلم من لا عذر له‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين يومئذ‏.‏

‏{‏لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ لا يستأذنك في التخلف، ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ أي شكت ونافقت، ‏{‏فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ‏}‏ متحيرين‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ‏}‏ إلى الغزو، ‏{‏لأعَدُّوا لَهُ‏}‏ أي‏:‏ لهيؤوا له ‏{‏عُدَّةً‏}‏ أهبة وقوة من السلاح والكراع، ‏{‏وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ‏}‏ خروجهم، ‏{‏فَثَبَّطَهُمْ‏}‏ منعهم وحبسهم عن الخروج، ‏{‏وَقِيلَ اقْعُدُوا‏}‏ في بيوتكم، ‏{‏مَعَ الْقَاعِدِينَ‏}‏ يعني‏:‏ مع المرضى والزَّمْنى‏.‏ وقيل‏:‏ مع النسوان والصبيان‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ‏}‏ أي‏:‏ قال بعضهم لبعض‏:‏ اقعدوا‏.‏ وقيل‏:‏ أوحى إلى قلوبهم وألهموا أسباب الخذلان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 54‏]‏

‏{‏لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏48‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏49‏)‏ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ‏(‏50‏)‏ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏51‏)‏ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ‏(‏52‏)‏ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏53‏)‏ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ‏}‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالجهاد لغزوة تبوك، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي على ذي جدة أسفل من ثنية الوداع، ولم يكن بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، فأنزل الله تعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَوْ خَرَجُوا‏}‏ يعني المنافقين ‏{‏فيكم‏}‏ أي معكم، ‏{‏مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا‏}‏ أي‏:‏ فسادا وشرا‏.‏ ومعنى الفساد‏:‏ إيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين بتهويل الأمر، ‏{‏وَلأوْضَعُوا‏}‏ أسرعوا، ‏{‏خِلالَكُم‏}‏ وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة ونقل الحديث من البعض إلى البعض‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏وَلأوْضَعُوا خِلالَكُم‏}‏ أي‏:‏ أسرعوا فيما يخلّ بكم‏.‏ ‏{‏يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ‏}‏ أي‏:‏ يطلبون لكم ما تفتنون به، يقولون‏:‏ لقد جُمع لكم كذا وكذا، وإنكم مهزومون وسيظهر عليكم عدوكم ونحو ذلك‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يبغونكم الفتنة يعني‏:‏ الْعَيْبَ والشرَّ‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الفتنة الشرك، ويقال‏:‏ بغيته الشر والخير أبغيه بُغَاءً إذا الْتَمَسْتُه له، يعني‏:‏ بغيت له‏.‏

‏{‏وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ معناه وفيكم محبون لهم يؤدون إليهم ما يسمعون منكم، وهم الجواسيس‏.‏ وقال قتادة‏:‏ معناه وفيكم مطيعون لهم، أي‏:‏ يسمعون كلامهم ويطيعونهم‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ طلبوا صدَّ أصحابك عن الدين وردَّهم إلى الكفر، وتخذيل الناس عنك قبل هذا اليوم، كفعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه‏.‏ ‏{‏وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ‏}‏ وأجالوا فيك وفي إبطال دينك الرأي، بالتخذيل عنك وتشتيت أمرك، ‏{‏حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ‏}‏ النصر والظفر، ‏{‏وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ‏}‏ دين الله، ‏{‏وَهُمْ كَارِهُونَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي‏}‏ نزلت في جَدِّ بن قَيْسٍ المنافق، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز لغزوة تبوك قال‏:‏ يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر‏؟‏ يعني الروم، تتخذ منهم سراري ووصفاء، فقال جد‏:‏ يا رسول الله لقد عرف قومي أني رجل مغرم بالنساء، وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن، ائْذَنْ لي في القعود ولا تفتني بهن وأعينُك بمالي‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ اعتلَّ جد بن قيس ولم تكن له علة إلا النفاق، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ أذنت لك فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومنهم‏}‏ يعني من المنافقين ‏{‏مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي‏}‏ في التخلف ‏{‏وَلا تَفْتِنِّي‏}‏ ببنات الأصفر‏.‏ قال قتادة‏:‏ ولا تؤثمني‏:‏ ‏{‏أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا‏}‏ أي‏:‏ في الشرك والإثم وقعوا بنفاقهم وخلافهم أمْرَ الله وأمر رسوله، ‏{‏وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ‏}‏ مطبقة بهم وجامعة لهم فيها‏.‏

‏{‏إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ‏}‏ نصرة وغنيمة، ‏{‏تسؤهم‏}‏ تُحزنُهم، يعني‏:‏ المنافقين، ‏{‏وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ‏}‏ قتل وهزيمة، ‏{‏يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا‏}‏ حَذَرَنا، أي‏:‏ أخذنا بالحزم في القعود عن الغزو، ‏{‏مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ من قبل هذه المصيبة، ‏{‏وَيَتَوَلَّوْا‏}‏ ويدبروا ‏{‏وَهُمْ فَرِحُونَ‏}‏ مسرورون بما نالك من المصيبة‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ لهم يا محمد ‏{‏لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا‏}‏ أي‏:‏ علينا في اللوح المحفوظ ‏{‏هُوَ مَوْلانَا‏}‏ ناصرنا وحافظنا‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة، ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا‏}‏ تنتظرون بنا أيها المنافقون، ‏{‏إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ‏}‏ إما النصر والغنيمة أو الشهادة والمغفرة‏.‏ وروينا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يُخْرِجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلمته‏:‏ أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة‏"‏‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ‏}‏ إحدى السوءتين إما‏:‏ ‏{‏أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ‏}‏ فيهلككم كما أهلك الأمم الخالية، ‏{‏أَوْ بِأَيْدِينَا‏}‏ أي‏:‏ بأيدي المؤمنين إن أظهرتم ما في قلوبكم، ‏{‏فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ‏}‏ قال الحسن‏:‏ فتربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعيد الله من إظهار دينه واستئصال مَنْ خالفه‏.‏

‏{‏قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا‏}‏ أمر بمعنى الشرط والجزاء، أي‏:‏ إن أنفقتم طوعا أو كرها‏.‏ نزلت في جد بن قيس حين استأذن في القعود، قال أعينكم بمالي، يقول‏:‏ إن أنفقتم طوعا أو كرها ‏{‏لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لأنكم، ‏{‏كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏ يقبل ‏"‏ بالياء لتقدم الفعل، وقرأ الباقون بالتاء لأن الفعل مسند إلى جمع مؤنث وهو النفقات، فأنث الفعل ليعلم أن الفاعل مؤنث، ‏{‏نَفَقَاتُهُمْ‏}‏ صدقاتهم، ‏{‏إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِه‏}‏ أي‏:‏ المانع من قبول نفقاتهم كفرهم، ‏{‏وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى‏}‏ متثاقلون لأنهم لا يرجون على أدائها ثوابا، ولا يخافون على تركها عقابا، فإن قيل‏:‏ كيف ذم الكسل في الصلاة ولا صلاة لهم أصلا‏؟‏ قيل‏:‏ الذم واقع على الكفر الذي يبعث على الكسل، فإن الكفر مكسل، والإيمان منشط، ‏{‏وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ‏}‏ لأنهم يعدونها مغرما ومنعها مغنما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 57‏]‏

‏{‏فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏55‏)‏ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ‏(‏56‏)‏ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ‏}‏ والإعجاب هو السرور بما يتعجب منه، يقول‏:‏ لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد لأن العبد إذا كان من الله في استدراج كثَّر الله ماله وولده، ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ فإن قيل‏:‏ أي تعذيب في المال والولد وهم يتنعمون بها في الحياة الدنيا‏؟‏

قيل‏:‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ في الآية تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة‏.‏

وقيل‏:‏ التعذيب بالمصائب الواقعة في المال والولد‏.‏

وقال الحسن‏:‏ يعذبهم بها في الدنيا بأخذ الزكاة منها والنفقة في سبيل الله‏.‏ وقيل‏:‏ يعذبهم بالتعب في جمعه، والوجل في حفظه، والكره في إنفاقه، والحسرة على تخليفه عند من لا يحمده، ثم يُقْدم على مَلِك لا يعذره‏.‏ ‏{‏وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ تخرج، ‏{‏وَهُمْ كَافِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يموتون على الكفر‏.‏

‏{‏وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ على دينكم، ‏{‏وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ‏}‏ يخافون أن يظهروا ما هم عليه‏.‏

‏{‏لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً‏}‏ حرزا وحصنا ومعقلا‏.‏ وقال عطاء‏:‏ مهربا‏.‏ وقيل‏:‏ قوما يأمنون فيهم‏.‏ ‏{‏أَوْ مَغَارَاتٍ‏}‏ غِيرانا في الجبال، جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور فيه، أي يستتر‏.‏ وقال عطاء‏:‏ سراديب‏.‏ ‏{‏أَوْ مُدَّخَلا‏}‏ موضع دخول فيه، وأصل‏:‏ مدتخل مفتعل، من أدخل يدخل‏.‏ قال مجاهد‏:‏ محرزا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ سربا‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ نفقا في الأرض كنفق اليربوع‏.‏ وقال الحسن‏:‏ وجها يدخلونه على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرئ‏:‏ ‏{‏مَدْخلا‏}‏ بفتح الميم وتخفيف الدال، وكذلك قرأ يعقوب، ‏{‏لَوَلَّوْا إِلَيْهِ‏}‏ لأدبروا إليه هربا منكم، ‏{‏وَهُمْ يَجْمَحُونَ‏}‏ يسرعون في إباء ونفور لا يرد وجوههم شيء‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أنهم لو يجدون مخلصا منكم ومهربا لفارقوكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ‏}‏ الآية نزلت في ذي الخويصرة التميمي، واسمه حرقوص بن زهير، أصل الخوارج‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ ‏"‏بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسمًا فينا، أتاه ذو الخُوَيْصرة، وهو رجل من بني تميم فقال‏:‏ يا رسول اعدل، فقال‏:‏ ‏"‏ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل‏؟‏ قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل‏"‏، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ يا رسول الله ائذنْ لي فيه فأضرب عنقه، فقال له‏:‏ ‏"‏دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يُجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يَمْرُقُ السهم من الرَّمِيَّة ينظر إلى نَصْلِه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رِصَافِهِ فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه، وهو قدْحُه، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قُذَذِهِ فلا يوجد فيه شيء، قد سَبَقَ الفَرْث والدم آيتهم‏:‏ رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فُرْقَةٍ من الناس‏"‏‏.‏ قال أبو سعيد‏:‏ فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فَالْتُمِسَ، فَوُجِدَ، فَأُتِيَ به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعته‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ قال رجل من المنافقين يقال له أبو الْجَوَّاظِ‏:‏ لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لم تقسم بالسوية، فأنزل الله تعالى ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ‏}‏ أي‏:‏ يعيبك في أمرها وتفريقها ويطعن عليك فيها‏.‏ يقال‏:‏ لمزه وهمزه، أي‏:‏ عابه، يعني أن المنافقين كانوا يقولون إن محمدا لا يعطي إلا من أحب‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏يَلْمِزُكَ‏}‏ حيث كان‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يلمزك أي‏:‏ يروزك يعني‏:‏ يختبرك‏.‏ ‏{‏فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ‏}‏ قيل‏:‏ إن أعطوا كثيرا فرحوا وإن أعطوا قليلا سخطوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ‏(‏59‏)‏ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏ أي‏:‏ قنعوا بما قسم لهم الله ورسوله ‏{‏وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ‏}‏ كافينا الله، ‏{‏سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ‏}‏ ما نحتاج إليه ‏{‏إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس‏.‏ وجواب ‏"‏لو ‏"‏ محذوف أي‏:‏ لكان خيرا لهم وأعود عليهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ الآية، بيَّن الله تعالى في هذه الآية أهل سهمان الصدقات وجعلها لثمانية أصناف‏.‏ وروي عن زياد بن الحارث الصُدائي قال‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتاه رجل وقال‏:‏ أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك‏"‏

قوله تعالى ‏{‏لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ فأحد أصناف الصدقة‏:‏ الفقراء، والثاني‏:‏ المساكين‏.‏

واختلف العلماء في صفة الفقير والمسكين، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة والزهري‏:‏ الفقير الذي لا يسأل، والمسكين‏:‏ الذي يسأل‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة، ولكن من أنقى نفسه وثيابه لا يقدر على شيء، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف‏.‏

وقال قتادة‏:‏ الفقير‏:‏ المحتاج الزَّمِنُ، والمسكين‏:‏ الصحيح المحتاج‏.‏

وروي عن عكرمة أنه قال‏:‏ الفقراء من المسلمين، والمساكين من أهل الكتاب‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ الفقير من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعا، زَمِنا كان أو غير زَمِن، والمسكين من كال له مال أو حرفة ولا يغنيه، سائلا أو غير سائل‏.‏ فالمسكين عنده أحسن حالا من الفقير لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏أما السفينة فكانت لمساكين‏"‏ ‏{‏الكهف- 79‏}‏ أثبت لهم ملكا مع اسم المسكنة‏.‏

وعند أصحاب الرأي‏:‏ الفقير أحسن حالا من المسكين‏.‏

وقال القتيبي‏:‏ الفقير‏:‏ الذي له البُلْغَة من العيش، والمسكين‏:‏ الذي لا شيء له‏.‏

وقيل‏:‏ الفقير من له المسكن والخادم، والمسكين من لا ملك له‏.‏ وقالوا‏:‏ كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيا عن غيره، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏أنتم الفقراء إلى الله‏"‏ ‏(‏غافر- 15‏)‏، والمسكين المحتاج إلى كل شيء ألا ترى كيف حضَّ على إطعامه، وجعل طعام الكفارة له ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سدّ الجوعة‏.‏

وقال إبراهيم النخعي‏:‏ الفقراء هم المهاجرون، والمساكين من لم يهاجروا من المسلمين‏.‏

وفي الجملة‏:‏ الفقر والمسكنة عبارتان عن الحاجة وضعف الحال، فالفقير المحتاج الذي كسرت الحاجة فقار ظهره، والمسكين الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، حدثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا الربيع، أنبأنا الشافعي، أنبأنا سفيان بن عيينة عن هشام، يعني‏:‏ ابن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار‏:‏ أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول الله فسألاه عن الصدقة فصعَّد فيهما وصوَّب فقال‏:‏ ‏"‏إن شئتما أعطيتكما ولاحظّ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب‏"‏‏.‏

واختلفوا في حد الغنى الذي يمنع أخذ الصدقة‏:‏ فقال الأكثرون‏:‏ حدُّه أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة، وهو قول مالك والشافعي‏.‏

وقال أصحاب الرأي‏:‏ حدُّه أن يملك مائتي درهم‏.‏

وقال قوم‏:‏ من ملك خمسين درهما لا تحل له الصدقة، لما روينا عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح‏"‏، قيل‏:‏ يا رسول الله وما يغنيه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏خمسون درهما أو قيمتها من الذهب‏"‏‏.‏ وهو قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق‏.‏ وقالوا لا يجوز أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين درهما‏.‏ وقيل‏:‏ أربعون درهما لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا‏}‏ وهم السعاة الذين يتولون قبض الصدقات من أهلها ووضعها في حقها، فيعطون من مال الصدقة، فقراء كانوا أو أغنياء، فيعطون أجر مثل عملهم‏.‏

وقال الضحاك ومجاهد‏:‏ لهم الثمن من الصدقة‏.‏

‏{‏وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ‏}‏ فالصنف الرابع من المستحقين للصدقة هم‏:‏ المؤلفة قلوبهم، وهم قسمان‏:‏ قسم مسلمون، وقسم كفار‏.‏ فأما المسلمون‏:‏ فقسمان، قسم دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم تألفًا كما أعطى عيينة بن بدر، والأقرع بن حابس، والعباس بن مرداس، أو أسلموا ونيتهم قوية في الإسلام، وهم شرفاء في قومهم مثل‏:‏ عدي بن حاتم، والزِّبْرِقان بن بدر، فكان يعطيهم تألفًا لقومهم، وترغيبًا لأمثالهم في الإسلام، فهؤلاء يجوز للإمام أن يعطيهم من خمس خمس الغنيمة، والفيء سهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من ذلك ولا يعطيهم من الصدقات‏.‏

والقسم الثاني من مؤلفة المسلمين‏:‏ أن يكون قوم من المسلمين بإزاء قوم كفار في موضع مُتَنَاطٍ لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بمؤنة كثيرة وهم لا يجاهدون، إما لضعف نيتهم أو لضعف حالهم، فيجوز للإمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة‏.‏ وقيل‏:‏ من سهم المؤلفة‏.‏ ومنهم قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة يأخذون منهم الزكاة يحملونها إلى الإمام، فيعطيهم الإمام من سهم المؤلفة من الصدقات‏.‏ وقيل‏:‏ من سهم سبيل الله‏.‏

روي أن عدي بن حاتم جاء أبا بكر الصديق بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيرا‏.‏

وأما الكفار من المؤلفة‏:‏ فهو مَنْ يُخشى شره منهم، أو يرجى إسلامه، فيريد الإمام أن يعطي هذا حذرًا من شره، أو يعطي ذلك ترغيبا له في الإسلام فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس، كما أعطى صفوان بن أمية لِمَا يرى من ميله إلى الإسلام، أما اليوم فقد أعزَّ الله الإسلام فله الحمد، وأغناه أن يُتَأَلَّف عليه رجال، فلا يُعطى مشرك تألفًا بحال، وقد قال بهذا كثير من أهل العلم أن المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط‏.‏ روي ذلك عن عكرمة، وهو قول الشعبي، وبه قال مالك والثوري، وأصحاب الرأي، وإسحاق بن راهويه‏.‏

وقال قوم‏:‏ سهمهم ثابت، يروى ذلك عن الحسن، وهو قول الزهري، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي ثور، وقال أحمد‏:‏ يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِي الرِّقَابِ‏}‏ والصنف الخامس‏:‏ هم الرقاب، وهم المكاتبون، لهم سهم من الصدقة، هذا قول أكثر الفقهاء، وبه قال سعيد بن جبير، والنخعي، والزهري، والليث بن سعد، والشافعي‏.‏ وقال جماعة‏:‏ يشترى بسهم الرقاب عبيد فيُعتقون‏.‏ وهذا قول الحسن، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْغَارِمِين‏}‏ الصنف السادس هم‏:‏ الغارمون، وهم قسمان‏:‏ قسم دانوا لأنفسهم في غير معصيته، فإنهم يُعْطَون من الصدقة إذا لم يكن لهم من المال ما يفي بديونهم، فإن كان عندهم وفاء فلا يُعْطَون، وقسم أدانوا في المعروف وإصلاح ذات البين فإنهم يُعْطَون من مال الصدقة ما يقضون به ديونهم، وإن كانوا أغنياء‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنبأنا زاهر بن أحمد، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة‏:‏ لغاز في سبيل الله، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المساكين فأهدى المسكين للغني، أو لعامل عليها‏"‏‏.‏

ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلا بمعناه‏.‏

أما من كان دَيْنه في معصية فلا يُدفع إليه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ أراد بها‏:‏ الغزاة، فلهم سهم من الصدقة، يُعطَون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو، وما يستعينون به على أمر الغزو من‏:‏ النفقة، والكسوة، والسلاح، والحمولة، وإن كانوا أغنياء، ولا يُعطى منه شيء في الحج عند أكثر أهل العلم‏.‏

وقال قوم‏:‏ يجوز أن يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج‏.‏ ويُروى ذلك عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وأحمد، وإسحاق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَابْنِ السَّبِيلِ‏}‏ الصنف الثامن‏:‏ هم أبناء السبيل، فكل من يريد سفرا مباحا ولم يكن له ما يقطع به المسافة يُعطى من الصدقة بقدر ما يقطع به تلك المسافة، سواء كان له في البلد المنتقل إليه مال أو لم يكن‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ابن السبيل هو الضيف‏.‏

وقال فقهاء العراق‏:‏ ابن السبيل‏:‏ الحاجّ المنقطع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَرِيضَةً‏}‏ أي‏:‏ واجبةً ‏{‏مِنَ اللَّهِ‏}‏ وهو نصب على القطع، وقيل‏:‏ على المصدر، أي‏:‏ فرض الله هذه الأشياء فريضة‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

اختلف الفقهاء في كيفية قسم الصدقات، وفي جواز صرفها إلى بعض الأصناف‏:‏

فذهب جماعة إلى أنه لا يجوز صرفها كلها إلى بعضهم مع وجود سائر الأصناف، وهو قول عكرمة، وبه قال الشافعي، قال‏:‏ يجب أن تقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجودين من الأصناف الستة، الذين سُهْمانهم ثابتة قسمة على السواء، لأن سهم المؤلفة ساقط، وسهم العامل إذا قسم بنفسه، ثم حصة كل صنف منهم لا يجوز أن تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم إن وجد منهم ثلاثة أو أكثر، فلو فاوت بين أولئك الثلاث يجوز، فإن لم يوجد من بعض الأصناف إلا واحد صرف حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج عن حدِّ الاستحقاق، فإن انتهت حاجته وفضل شيء ردَّه إلى الباقين‏.‏

وذهب جماعة إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه الأصناف، أو إلى شخص واحد منهم يجوز، وإنما سمَّى الله تعالى هذه الأصناف الثمانية إعلاما منه أن الصدقة لا تخرج عن هذه

الأصناف، لا إيجابا لقسمها بينهم جميعا‏.‏ وهو قول عمر، وابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير وعطاء، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي، وبه قال أحمد، قال‏:‏ يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى‏.‏

وقال إبراهيم‏:‏ إن كان المال كثيرا يحتمل الإجزاء قسَّمه على الأصناف، وإن كان قليلا جاز وضعه في صنف واحد‏.‏

وقال مالك‏:‏ يتحرى موضع الحاجة منهم، ويُقَدَّم الأوْلى فالأوْلَى من أهل الخُلَّة والحاجة، فإن رأى الخلة في الفقراء في عام أكثر قدَّمهم، وإن رآها في عام في صنف آخر حولها إليهم‏.‏

وكل من دُفِعَ إليه شيء من الصدقة لا يزيد على قدر الاستحقاق، فلا يزيد الفقير على قدر غناه، فإذا حصل أدنى اسم الغنى لا يُعطى بعده، فإن كان محترفا لكنه لا يجد آلة حرفته‏:‏ فيعطى قدر ما يحصل به آلة حرفته، ولا يزاد العامل على أجر عمله، والمُكاتب على قدر ما يُعتق به، وللغريم على قدر دينه، وللغازي على قدر نفقته للذهاب والرجوع والمقام في مغزاه وما يحتاج إليه من الفرس والسلاح، ولابن السبيل على قدر إتيانه مقصده أو مآله‏.‏

واختلفوا في نقل الصدقة عن بلد المال إلى موضع آخر، مع وجود المستحقين فيه‏:‏ فكرهه أكثر أهل العلم، لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أنبأنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا أبو كريب، حدثنا وكيع، حدثنا زكريا بن إسحاق المكي، حدثنا يحيى بن عبد الله بن الصيفي عن أبي معبد عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن فقال‏:‏ ‏"‏إنك تأتي قومًا أهل كتاب فادْعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فَأَعْلِمْهُمْ أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فَأَعْلِمْهُمْ أن الله قد فرض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوةَ المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب‏"‏‏.‏

فهذا يدل على أن صدقة أغنياء كل قوم تُردّ على فقراء ذلك القوم‏.‏

واتفقوا على أنه إذا نقل من بلد إلى بلد آخر أُدِّي مع الكراهة، وسقط الفرض عن ذمته، إلا ما حُكي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه ردّ صدقة حملت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ‏}‏ نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون ما لا ينبغي، فقال بعضهم‏:‏ لا تفعلوا، فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا‏.‏ فقال الجُلاس بن سُوَيْد منهم‏:‏ بل نقول ما شئنا، ثم نأتيه فننكر ما قلنا، ونحلف فيصدقنا بما نقول، فإنما محمد أُذُنٌ أي‏:‏ أذن سامعة، يقال‏:‏ فلان أُذُنٌ وأُذْنَةٌ على وزن فُعْلَة إذا كان يسمع كل ما قيل له ويقبله‏.‏ وأصله من أذن يأذن أذنا أي‏:‏ استمع‏.‏ وقيل‏:‏ هو أذن أي‏:‏ ذو أذن سامعة‏.‏

وقال محمد بن إسحاق بن يسار‏:‏ نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحارث، وكان رجلا أذلم، ثائر شعر الرأس، أحمر العينين، أسفع الخدين، مشوَّه الخلقة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث‏"‏، وكان ينم حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين، فقيل له‏:‏ لا تفعل، فقال‏:‏ إنما محمد أذن فمن حدَّثه شيئًا صدقه، فنقول ما شئنا، ثم نأتيه ونحلف بالله فيصدقنا‏.‏ فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ‏}‏ قرأه العامة بالإضافة، أي‏:‏ مستمع خير وصلاح لكم، لا مستمع شر وفساد‏.‏ وقرأ الأعمش والبُرْجُمِيّ عن أبي بكر‏:‏ ‏{‏أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ‏}‏ مرفوعين منونين، يعني‏:‏ أن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم، ثم كذبهم فقال‏:‏ ‏{‏يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ لا بل يؤمن بالله، ‏{‏وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ يصدق المؤمنين ويقبل منهم لا من المنافقين‏.‏ يقال‏:‏ أمنته وأمنت له بمعنى صدقته‏.‏ ‏{‏وَرَحْمَةٌ‏}‏ قرأ حمزة‏:‏ ‏"‏ ورحمة ‏"‏ بالخفض على معنى أذن خير لكم، وأذن رحمة، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏ورحمة‏"‏ بالرفع، أي‏:‏ هو أذن خير، وهو رحمة ‏{‏لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ‏}‏ لأنه كان سبب إيمان المؤمنين‏.‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ‏(‏63‏)‏ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ‏}‏ قال قتادة والسدي‏:‏ اجتمع ناس من المنافقين فيهم الجلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت، فوقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا‏:‏ إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير، وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس، فحقروه وقالوا هذه المقالة، فغضب الغلام وقال‏:‏ والله إن ما يقول محمد حق وأنتم شر من الحمير، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدعاهم وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلفوا أن عامرا كذاب‏.‏ وحلف عامر أنهم كذبة فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عامر يدعو ويقول‏:‏ اللهم صدِّق الصادق وكذِّب الكاذب فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

وقال مقاتل والكلبي‏:‏ نزلت في رهط من المنافقين تخلّفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه يعتذرون إليه ويحلفون، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏"‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ يخالف الله ورسوله أن يكونوا في جانب واحد من الله ورسوله، ‏{‏فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ‏}‏ أي‏:‏ الفضيحة العظيمة‏.‏

‏{‏يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ يخشى المنافقون، ‏{‏أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ تنزل على المؤمنين، ‏{‏سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بما في قلوب المنافقين من الحسد والعداوة للمؤمنين، كانوا يقولون فيما بينهم ويُسرون ويخافون الفضيحة بنزول القرآن في شأنهم‏.‏

قال قتادة‏:‏ هذه السورة تسمى الفاضحة والمبعثرة والمثيرة، أثارت مخازيهم ومثالبهم‏.‏

قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أنزل الله تعالى ذكر سبعين رجلا من المنافقين بأسمائهم وأسماء آبائهم ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة للمؤمنين، لئلا يعير بعضهم بعضا، لأن أولادهم كانوا مؤمنين‏.‏

‏{‏قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ‏}‏ مظهر ‏{‏مَا تَحْذَرُونَ‏}‏‏.‏

قال ابن كيسان‏:‏ نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلا من المنافقين، وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها، ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه، وتنكروا له في ليلة مظلمة، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدَّروا، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، وعمار بن ياسر يقود برسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته، وحذيفة يسوق به، فقال لحذيفة‏:‏ اضرب وجوه رواحلهم فضربها حتى نحاها، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحذيفة‏:‏ من عرفت من القوم‏؟‏ قال‏:‏ لم أعرف منهم أحدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فإنهم فلان وفلان حتى عدَّهم كلهم، فقال حذيفة‏:‏ ألا تبعث إليهم فتقتلهم‏؟‏ فقال‏:‏ أكره أن تقول العرب‏.‏ لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم، بل يكفيناهم الله بالدُّبَيْلَة‏"‏‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن قيس بن عبادة قال‏:‏ قلنا لعمار‏:‏ أرأيت قتالكم أرأيا رأيتموه‏؟‏ فإن الرأي يخطئ ويصيب، أو عهدا عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة، وقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن في أمتي- قال شعبة وأحسبه قال‏:‏ حدثني حذيفة قال في أمتي- اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها، حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيهم الدبيلة، سراج من النار يظهر في أكتافهم، حتى ينجم من صدورهم‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ‏}‏ الآية، وسبب نزول هذه الآية على ما قال الكلبي ومقاتل وقتادة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين، اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول، والثالث يضحك‏.‏

قيل‏:‏ كانوا يقولون‏:‏ إن محمدا يزعم أنه يغلب الروم ويفتح مدائنهم ما أبعده من ذلك‏!‏

وقيل كانوا يقولون‏:‏ إن محمدا يزعم أنه نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن، وإنما هو قوله وكلامه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ فقال‏:‏ احبسوا علي الركب، فدعاهم وقال لهم‏:‏ قلتم كذا وكذا، فقالوا‏:‏ إنما كنا نخوض ونلعب، أي كنا نتحدث ونخوض في الكلام كما يفعل الركب لقطع الطريق بالحديث واللعب‏.‏

قال عمر فلقد رأيت عبد الله بن أبي يشتد قدام رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه وهو يقول‏:‏ إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون، ما يلتفت إليه ولا يزيد عليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ أي‏:‏ قل يا محمد ‏{‏أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ‏}‏ كتابه، ‏{‏وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ‏}‏ فإن قيل‏:‏ كيف قال‏:‏ كفرتم بعد إيمانكم، وهم لم يكونوا مؤمنين‏؟‏

قيل‏:‏ معناه‏:‏أظهرتم الكفر بعدما أظهرتم الإيمان‏.‏

‏{‏إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ نتب على طائفة منكم، وأراد بالطائفة واحدًا، ‏{‏نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ‏}‏ بالاستهزاء‏.‏ قرأ عاصم‏:‏ ‏"‏نَعْفُ‏"‏ بالنون وفتحها وضم الفاء، ‏"‏نُعَذِّب‏"‏ بالنون وكسر الذال، ‏{‏طَائِفَةً‏}‏ نصب‏.‏ وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏يُعْفَ‏"‏ بالياء وضمها وفتح الفاء، ‏{‏تُعَذَّب‏}‏ بالتاء وفتح الذال، ‏"‏طائفٌ‏"‏ رفعٌ على غير تسمية الفاعل‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ الذي عفا عنه رجلٌ واحد، هو مَخْشِيّ بن حُمَيِّر الأشجعي، يقال هو الذي كان يضحك ولا يخوض، وكان يمشي مجانبا لهم وينكر بعض ما يسمع، فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه، وقال‏:‏ اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أُعْنَى بها تقشعر الجلود منها، وتجب منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت، فأُصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا عُرِفَ مصرعُه غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 72‏]‏

‏{‏الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏67‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏68‏)‏ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏69‏)‏ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏70‏)‏ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏72‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ‏}‏ أي‏:‏ هم على دين واحد‏.‏ وقيل‏:‏ أمرهم واحد بالاجتماع على النفاق، ‏{‏يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ‏}‏ بالشرك والمعصية، ‏{‏وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ‏}‏ أي عن الإيمان والطاعة، ‏{‏وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يمسكونها عن الصدقة والإنفاق في سبيل الله ولا يبسطونها بخير، ‏{‏نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ‏}‏ تركوا طاعة الله، فتركهم الله من توفيقه وهدايته في الدنيا، ومن رحمته في الآخرة، وتركهم في عذابه، ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ‏}‏ كافيتهم جزاء على كفرهم، ‏{‏وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ‏}‏ أبعدهم من رحمته، ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ‏}‏ دائم‏.‏

‏{‏كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فعلتم كفعل الذين من قبلكم بالعدول من أمر الله، فلعنتم كما لعنوا ‏{‏كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً‏}‏ بطشا ومنعة، ‏{‏وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ‏}‏ فتمتعوا أو انتفعوا بخلاقهم؛ بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ورضوا به عوضا عن الآخرة، ‏{‏فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ‏}‏ أيها الكفار والمنافقون، ‏{‏كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ‏}‏ وسلكتم سبيلهم، ‏{‏وَخُضْتُم‏}‏ في الباطل والكذب على الله تعالى، وتكذيب رسله، وبالاستهزاء بالمؤمنين، ‏{‏كَالَّذِي خَاضُوا‏}‏ أي‏:‏ كما خاضوا‏.‏ وقيل‏:‏ كالذي يعني كالذين خاضوا، وذلك أن ‏"‏الذي‏"‏ اسم ناقص، مثل ‏"‏ما‏"‏ و ‏"‏من‏"‏ يعبر به عن الواحد والجميع، نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏"‏كمثل الذي استوقد نارا‏"‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ذهب الله بنورهم‏"‏ ‏(‏البقرة- 17‏)‏‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ كما حبطت أعمالهم وخسروا كذلك حبطت أعمالكم وخسرتم‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا أبو عمر الصنعاني من اليمن، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم‏"‏، قلنا‏:‏ يا رسول الله اليهود والنصارى‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏فمن‏"‏‏؟‏ وفي رواية أبي هريرة‏:‏ ‏"‏فهلِ الناسُ إلا هُمْ‏"‏، وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سَمْتًا وَهَدْيًا تتبعون عملهم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ غير أني لا أدري أتعبدون العِجْلَ أم لا‏؟‏ ‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْتِهِمْ‏}‏ يعني المنافقين، ‏{‏نَبَأُ‏}‏ خبر، ‏{‏الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ حين عصوا رُسلنا، وخالفوا أمرنا كيف عذبناهم وأهلكناهم‏.‏ ثم ذكرهم، فقال‏:‏ ‏{‏قَوْمِ نُوحٍ‏}‏ أهلكوا بالطوفان، ‏{‏وَعَاد‏}‏ أهلكوا بالريح ‏{‏وَثَمُود‏}‏ بالرجفة، ‏{‏وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ بسلب النعمة وهلاك نمرود، ‏{‏وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ‏}‏ يعني قوم شعيب أهلكوا بعذاب يوم الظلة، ‏{‏وَالْمُؤْتَفِكَاتِ‏}‏ المنقلبات التي جعلنا عاليها سافلها وهم قوم لوط، ‏{‏أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏ فكذَّبوهم وعصوهم كما فعلتم يا معشر الكفار، فاحذروا تعجيل النقمة، ‏{‏فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏}‏ في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة‏.‏ ‏{‏يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ بالإيمان والطاعة والخير، ‏{‏وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ‏}‏ عن الشرك والمعصية وما لا يُعرف في الشرع، ‏{‏وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ‏}‏ المفروضة، ‏{‏وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً‏}‏ منازل طيبة، ‏{‏فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ‏}‏ أي‏:‏ بساتين خلد وإقامة، يقال‏:‏ عدن بالمكان إذا أقام به‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ هي بُطْنَان الجنة، أي‏:‏ وسطها‏.‏

قال عبد الله بن عمرو بن العاص‏:‏ إن في الجنة قصرا يقال له‏:‏ ‏"‏عدن‏"‏ حوله البروج والمروج، له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد‏.‏

وقال الحسن‏:‏ قصر من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل‏.‏

وقال عطاء بن السائب‏:‏ ‏"‏عدن‏"‏ نهر في الجنة جنانه على حافتيه‏.‏

وقال مقاتل والكلبي‏:‏ ‏"‏عدن‏"‏ أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها، محدقة بها، وهي مغطاة من حين خلقها الله تعالى حتى ينزلها أهلها‏:‏ الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، ومن شاء الله، وفيها قصور الدر واليواقيت والذهب، فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأذفر الأبيض‏.‏

‏{‏وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ‏}‏ أي‏:‏ رضا الله عنهم أكبر من ذلك، ‏{‏ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ روينا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يقول الله عز وجل لأهل الجنة يا أهل الجنة هل رضيتم‏؟‏ فيقولون‏:‏ ربنا ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحدا من خلقك، فيقول‏:‏ أفلا أعطيكم أفضل من ذلك‏؟‏ فيقولون‏:‏ ربنا وأي شيء أفضل من ذلك‏؟‏ فيقول‏:‏ أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏73‏)‏ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ‏}‏ بالسيف والقتل، ‏{‏وَالْمُنَافِقِينَ‏}‏ واختلفوا في صفة جهاد المنافقين، قال ابن مسعود‏:‏ بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه، وقال لا تلق المنافقين إلا بوجه مكفهر‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ باللسان وترك الرفق‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ بتغليظ الكلام‏.‏ وقال الحسن وقتادة‏:‏ بإقامة الحدود عليهم‏.‏ ‏{‏وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ‏}‏ في الآخرة،‏.‏ ‏{‏جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏ قال عطاء‏:‏ نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة فقال‏:‏ ‏"‏إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه‏"‏، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏علام تشتمني أنت وأصحابك‏"‏‏؟‏ فانطلق الرجل، فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله، ما قالوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ نزلت في الجُلاس بن سويد، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك، فذكر المنافقين وسمَّاهم رجسا وعابهم، فقال جلاس‏:‏ لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير‏.‏ فسمعه عامر بن قيس، فقال‏:‏ أجل إن محمدا لصادق وأنتم شر من الحمير، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلاس‏:‏ كذب علي يا رسول الله، وأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر، فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله، ولقد كذب عليَّ عامر، ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه، ثم رفع يديه إلى السماء وقال‏:‏ اللهم أنزل على نبيك تصديق الصادق منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون‏:‏ آمين‏.‏ فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية، حتى بلغ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ‏}‏ فقام الجلاس فقال‏:‏ يا رسول الله أسمع الله عز وجل قد عرض علي التوبة، صدق عامر بن قيس فيما قاله، لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله ذلك منه وحسنت توبته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أظهروا الكفر بعد إظهار الإيمان والإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ هي سب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ كلمة الكفر قول الجلاس‏:‏ لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير‏.‏ وقيل‏:‏ كلمة الكفر قولهم ‏"‏لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل‏"‏، ‏(‏المنافقين- 8‏)‏ وستأتي تلك القصة في موضعها في سورة المنافقين ‏{‏وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ همَّ المنافقون بقتل المسلم الذي سمع قولهم‏:‏ لنحن شر من الحمير، لكي لا يفشيه‏.‏

وقيل‏:‏ همَّ اثنا عشر رجلا من المنافقين وقفوا على العقبة في طريق تبوك ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء جبريل عليه السلام وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، فأرسل حذيفة لذلك‏.‏

وقال السدي‏:‏ قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا، فلم يصلوا إليه‏.‏

‏{‏وَمَا نَقَمُوا‏}‏ وما كرهوا وما أنكروا منهم، ‏{‏إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ وذلك أن مولى الجلاس قُتِل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألف درهم فاستغنى‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم‏.‏

‏{‏فَإِنْ يَتُوبُوا‏}‏ من نفاقهم وكفرهم ‏{‏يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا‏}‏ يعرضوا عن الإيمان، ‏{‏يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا‏}‏ بالخزي، ‏{‏وَالآخِرَةِ‏}‏ أي‏:‏ وفي الآخرة بالنار، ‏{‏وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ‏}‏ الآية‏.‏ أخبرنا أبو سعيد الشريحي، حدثنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو عبد الله بن حامد الأصفهاني، حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم السمرقندي، حدثنا محمد بن نصر، حدثني أبو الأزهر أحمد بن الأزهر، حدثنا مروان بن محمد بن شعيب حدثنا معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهلي قال‏:‏ جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه‏"‏، ثم أتاه بعد ذلك فقال‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما لك في رسول الله أسوة حسنة‏؟‏ والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت‏"‏ ثم أتاه بعد ذلك فقال‏:‏ يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فوالذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اللهم ارزق ثعلبة مالا‏"‏‏.‏

قال‏:‏ فاتخذ غنما فَنَمَتْ كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها، فنزل واديا من أوديتها وهي تنمو كالدود، فكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر، ويصلي في غنمه سائر الصلوات، ثم كثرت ونمت حتى تباعد بها عن المدينة، فصار لا يشهد إلا الجمعة، ثم كثرت فنمت فتباعد أيضا حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة‏.‏ فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار، فذكره صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال‏:‏ ما فعل ثعلبة‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما ما يسعها واد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة‏"‏‏.‏ فأنزل الله آية الصدقات، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني سليم ورجلا من جهينة وكتب لهما أسنان الصدقة، كيف يأخذان‏؟‏ وقال لهما‏:‏ ‏"‏مرا بثعلبة بن حاطب، و بفلان، رجلٍ من بني سليم فخذا صدقاتهما، فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي، فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأوها قالوا‏:‏ ما هذه عليك‏.‏ قال‏:‏ خذاه فإن نفسي بذلك طيبة، فمرا على الناس فأخذا الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة، فقال‏:‏ أروني كتابكما فقرأه، ثم قال‏:‏ ما هذه إلا أخت الجزية، اذهبا حتى أرى رأيي‏.‏

قال فأقبلا فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه قال‏:‏ يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة، ثم دعا للسلمي بخير، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، فأنزل الله تعالى فيه‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ‏}‏ الآية، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏}‏ وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال‏:‏ ويحك يا ثعلبة لقد أنزل الله فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه الصدقة، فقال‏:‏ إن الله عز وجل منعني أن أقبل منك صدقتك، فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذا عملك وقد أمرتك فلم تطعني، فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبض صدقته، رجع إلى منزله‏.‏ وقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم أتى أبا بكر فقال‏:‏ اقبل صدقتي، فقال أبو بكر‏:‏ لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنا أقبلها‏؟‏ فقُبِض أبو بكر ولم يقبلها‏.‏ فلما وَلِيَ عمر أتاه فقال‏:‏ اقبل صدقتي، فقال‏:‏ لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر، أنا أقبلها منك‏؟‏ فلم يقبلها فلما وَلِيَ عثمان أتاه فلم يقبلها منه، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان‏.‏

قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة‏:‏ أتى ثعلبة مجلسا من الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت منه كل ذي حق حقه، وتصدقت منه، ووصلت الرحم، وأحسنت إلى القرابة، فمات ابن عم له فورَّثه مالا فلم يف بما قال، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

وقال الحسن ومجاهد‏:‏ نزلت في ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير، وهما من بني عمرو بن عوف، خرجا على ملأ قعودٍ وقالا والله لئن رزقنا الله مالا لنصدقن، فلما رزقهما الله عز وجل بخلا به فقوله عز وجل ‏{‏وَمِنْهُم‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين ‏{‏مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ‏}‏ ولنؤدين حقّ الله منه‏.‏ ‏{‏وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ نعمل بعمل أهل الصلاح فيه؛ من صلة الرحم والنفقة في الخير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 79‏]‏

‏{‏فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏76‏)‏ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏77‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ ‏(‏78‏)‏ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏‏}‏‏.‏

‏"‏فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون‏"‏‏.‏ ‏{‏فَأَعْقَبَهُم‏}‏ فأخلفهم، ‏{‏نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ صيَّر عاقبة أمرهم النفاق، يقال‏:‏ أعقب فلانا ندامة إذا صيَّر عاقبة أمره ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ عاقبهم بنفاق قلوبهم‏.‏ يقال‏:‏ عاقبتُه وأعقبته بمعنى واحد‏.‏ ‏{‏إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ‏}‏ يريد حرمهم التوبة إلى يوم القيامة، ‏{‏بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏}‏‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، حدثنا عبد الله بن عمر الجوهري، حدَّثنا أحمد بن علي الكشميهني، حدثنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرنا أبو سهيل نافع بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏آية المنافق ثلاث‏:‏ إذا حدَّث كذب، وإذا وعَدَ أخلف، وإذا ائتُمِنَ خان‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ما أضمروا في قلوبهم وما تناجوا به بينهم، ‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ‏}‏ الآية‏.‏

قال أهل التفسير‏:‏ حثَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، وقال‏:‏ يا رسول الله مالي ثمانية آلاف جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله، وأمسكتُ أربعة آلاف لعيالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏بارك الله لك فيما أعطيتَ وفيما أمسكتَ‏"‏، فبارك الله في ماله حتى إنه خلَّف امرأتين يوم مات فبلغ ثُمُنُ ماله لهما مائة وستين ألف درهم‏.‏ وتصدَّق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وَسْقٍ من تمر‏.‏ وجاء أبو عقيل الأنصاري واسمه الحباب بصاع من تمر، وقال‏:‏ يا رسول الله بتُّ ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نِلْتُ صاعين من تمر فأمسكتُ أحدهما لأهلي وأتيتُك بالآخر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقة، فلمزهم المنافقون، فقالوا‏:‏ ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياءً، وإن الله ورسوله لغنيَّان عن صاع أبي عقيل، ولكنه أراد أن يُذكِّر بنفسه ليعطى من الصدقة، فأنزل الله عز وجل‏:‏

‏{‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ‏}‏ أي‏:‏ يعيبون ‏{‏الْمُطَّوِّعِين‏}‏ المتبرعين ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ‏}‏ يعني‏:‏ عبد الرحمن بن عوف وعاصمًا‏.‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ طاقتهم، يعني‏:‏ أبا عقيل‏.‏ والجهد‏:‏ الطاقة، بالضم لغة قريش وأهل الحجاز‏.‏ وقرأ الأعرج بالفتح‏.‏ قال القتيبي‏:‏ الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة‏.‏ ‏{‏فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ‏}‏ يستهزئون منهم، ‏{‏سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ جازاهم الله على السخرية، ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 83‏]‏

‏{‏اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏80‏)‏ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ‏(‏81‏)‏ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ لفظه أمر، ومعناه خبر، تقديره‏:‏ استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم‏.‏ ‏{‏إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏}‏ وذكر عدد السبعين للمبالغة في اليأس على طمع المغفرة‏.‏

قال الضحاك‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله قد رخص لي فلأزيدن على السبعين لعل الله أن يغفر لهم‏"‏، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم‏}‏‏.‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ‏}‏ عن غزوة تبوك‏.‏ والمخلف‏:‏ المتروك ‏{‏بِمَقْعَدِهِمْ‏}‏ أي بقعودهم ‏{‏خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار وأقاموا، ‏{‏وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ‏}‏ وكانت غزوة تبوك في شدة الحر، ‏{‏قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ‏}‏ يعلمون وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود‏.‏

‏{‏فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا‏}‏ في الدنيا، ‏{‏وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا‏}‏ في الآخرة‏.‏ تقديره‏:‏ فليضحكوا قليلا فسيبكون كثيرا، ‏{‏جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنبأنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي قال‏:‏ أخبرنا عبد الله بن محمد الحسين الشرقي، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا شعبة عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنهم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، حدثنا أبو طاهر محمد بن أحمد الحارث، حدثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي حدثنا عبد الله بن محمود، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك عن عمران بن زيد الثعلبي، حدثنا يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس ابكوا، فإن لم تستطيعوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول، ثم تنقطع الدموع، فتسيل الدماء فتقرَّح العيون، فلو أن سُفُنًا أُجْرِيَتْ فيها لَجَرَتْ‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ ردك يا محمد من غزوة تبوك، ‏{‏إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ من المخلفين‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏"‏طائفة منهم‏"‏ لأنه ليس كل من تخلف عن غزوة تبوك كان منافقا، ‏{‏فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ‏}‏ معك في غزوة أخرى، ‏{‏فَقُل‏}‏ لهم ‏{‏لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا‏}‏ في سفر، ‏{‏وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ في غزوة تبوك ‏{‏فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ‏}‏ أي‏:‏ مع النساء والصبيان، وقيل مع الزمنى والمرضى‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ مع الذين تخلفوا بغير عذر‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏مَعَ الْخَالِفِينَ‏}‏ قال الفراء‏:‏ يقال‏:‏ صاحب خالف إذا كان مخالفا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 90‏]‏

‏{‏وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏84‏)‏ وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏86‏)‏ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ‏(‏87‏)‏ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏88‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏89‏)‏ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا‏}‏ الآية‏.‏ قال أهل التفسير‏:‏ بعث عبد الله بن أُبَيّ بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض، فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أهلككَ حبُّ اليهود‏؟‏ فقال‏:‏ يا رسول الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني، إنما بعثت إليك لتستغفر لي، وسأله أن يكفنه في قميصه ويصلي عليه‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن بكير، حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أنه قال‏:‏ لما مات عبد الله بن أُبَيّ بن سلول دُعِيَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وَثَبْتُ إليه، فقلت‏:‏ يا رسول الله أتصلي على ابن أُبَيّ بن سلول وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا‏؟‏ أعدِّد عليه قوله، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏أخِّر عني يا عمر‏"‏ فلما أكثرتُ عليه قال‏:‏ إني خُيّرتُ فاخترتُ، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها، قال‏:‏ فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة‏:‏ ‏{‏وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ قال‏:‏ فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، والله ورسوله أعلم‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان قال عمرو‏:‏ سمعت جابر بن عبد الله قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعدما أدخل في حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه ونفث في فيه من ريقه وألبسه قميصه‏.‏ فالله أعلم وكان كسا عباسا قميصا‏.‏

قال سفيان‏:‏ وقال هارون‏:‏ وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان فقال ابن عبد الله‏:‏ يا رسول الله ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك‏.‏

وروي عن جابر قال‏:‏ لما كان يوم بدر أتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه عبد الله‏.‏ قال ابن عيينة‏:‏ كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه‏.‏

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كُلِّم فيما فعل بعبد الله بن أبي فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله شيئا والله إني كنت أرجو أن يُسلم به ألف من قومه‏"‏، ورُوي أنه أسلم به ألف من قومه لما رأوه يتبرك بقميص النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ‏}‏ ولا تقف عليه، ولا تتولَّ دفنه، من قولهم‏:‏ قام فلان بأمر فلان‏:‏ إذا كفاه أمره‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ فما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدها على منافق ولا قام على قبره حتى قُبض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ‏"‏

‏{‏وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْل منهم‏}‏ ذوو الغنى والسَّعة منهم في القعود، ‏{‏وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ‏}‏ في رحالهم‏.‏

‏{‏رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ‏}‏ يعني النساء‏.‏ وقيل‏:‏ مع أدنياء الناس وسفلتهم‏.‏ يقال‏:‏ فلان خَالِفَةُ قومه إذا كان دونهم‏.‏ ‏{‏وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ‏}‏ يعني‏:‏ الحسنات، وقيل‏:‏ الجواري الحسان في الجنة‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فيهن خيرات حسان‏}‏، جمع خَيْرَة وحُكِيَ عن ابن عباس‏:‏ أنَّ الخير لا يعلم معناه إلا الله كما قال جل ذكره‏:‏ ‏"‏فلا تعلم نفسٌ ما أُخْفِيَ لهم من قُرةِ أعين‏"‏ ‏(‏السجدة- 17‏)‏‏.‏ ‏{‏وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ‏}‏ الآية، قرأ يعقوب ومجاهد‏:‏ ‏{‏الْمُعَذِّرُونَ‏}‏ بالتخفيف وهم المبالغون في العذر، يقال في المَثَل‏:‏ ‏"‏لقد أُعذر من أنذر‏"‏ أي‏:‏ بالغ في العذر مَنْ قدم النذارة، وقرأ الآخرون ‏"‏ المعذِّرون ‏"‏ بالتشديد أي‏:‏ المقصرون، يقال‏:‏ عَذَّرَ أي‏:‏ قصَّر، وقال الفراء‏:‏ المعذرون المعتذرون أدغمت التاء في الذال ونقلت حركة التاء إلى العين‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ المعذرون هم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم فقالوا‏:‏ يا نبي الله إن نحن غزونا معك تُغير أعراب طيء على حلائلنا وأولادنا ومواشينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله عنكم‏"‏‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ هم الذين تخلفوا بعذر بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين‏.‏

قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ كلا الفريقين كان مسيئا قوم تكلفوا عذرا بالباطل، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ‏}‏ وقوم تخلفوا عن غير تكلف عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى، وهم المنافقون فأوعدهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 92‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏91‏)‏ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏‏.‏

ثم ذكر أهل العذر، فقال جل ذكره‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني الزمنى والمشايخ والعجزة‏.‏ وقيل‏:‏ هم الصبيان وقيل‏:‏ النسوان، ‏{‏وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ‏}‏ يعني الفقراء ‏{‏حَرَجٌ‏}‏ مأثم‏.‏ وقيل‏:‏ ضيق في القعود عن الغزو، ‏{‏إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ في مغيبهم وأخلصوا الإيمان والعمل لله وبايعوا الرسول‏.‏ ‏{‏مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ‏}‏ أي‏:‏ من طريق بالعقوبة، ‏{‏وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

قال قتادة‏:‏ نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ نزلت في عبد الله بن أم مكتوم وكان ضرير البصر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ‏}‏ معناه‏:‏ أنه لا سبيل على الأولين ولا على هؤلاء الذين أتوك وهم سبعة نفر سُمُّوا البكائين‏:‏ معقل بن يسار، وصخر بن خنساء، وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعُلْبَة بن زيد الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن مُغَفَّل المزني، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله إن الله قد ندبنا إلى الخروج معك فاحملنا‏.‏

واختلفوا في قوله‏:‏ ‏{‏لِتَحْمِلَهُم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ سألوه أن يحملهم على الدواب‏.‏

وقيل سألوه أن يحملهم على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة، ليغزوا معه فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا أجد ما أحملكم عليه‏"‏ تولوا، وهم يبكون، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 96‏]‏

‏{‏إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ‏(‏93‏)‏ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏94‏)‏ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏95‏)‏ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏96‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّمَا السَّبِيلُ‏}‏ بالعقوبة، ‏{‏عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ‏}‏ في التخلف ‏{‏وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ‏}‏ مع النساء والصبيان، ‏{‏وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ‏}‏ يروى أن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين نفرا، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاؤوا يعتذرون بالباطل‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ‏}‏ لن نصدقكم، ‏{‏قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ‏}‏ فيما سلف، ‏{‏وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ‏}‏ في المستأنف أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه‏؟‏ ‏{‏ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ‏}‏ إذا انصرفتم إليهم من غزوكم، ‏{‏لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ‏}‏ لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم، ‏{‏فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ‏}‏ فدعوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق، ‏{‏إِنَّهُمْ رِجْسٌ‏}‏ نجس أي‏:‏ إن عملهم قبيح، ‏{‏وَمَأْوَاهُم‏}‏ في الآخرة، ‏{‏جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ نزلت في جد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلا من المنافقين‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة‏:‏ ‏"‏لا تجالسوهم ولا تكلموهم‏"‏‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ نزلت في عبد الله بن أبي حلف للنبي صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، ونزل‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 99‏]‏

‏{‏الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏97‏)‏ وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏98‏)‏ وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏99‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏الأعْرَابُ‏}‏ أي‏:‏ أهل البدو، ‏{‏أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا‏}‏ من أهل الحضر، ‏{‏وَأَجْدَرُ‏}‏ أخلق وأحرى، ‏{‏أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ‏}‏ وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السنن، ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ‏}‏ بما في قلوب خلقه ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ فيما فرض من فرائضه‏.‏

‏{‏وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا‏}‏ قال عطاء‏:‏ لا يرجو على إعطائه ثوابا، ولا يخاف على إمساكه عقابا، إنما ينفق خوفا أو رياء والمغرم التزام ما لا يلزم‏.‏ ‏{‏وَيَتَرَبَّصُ‏}‏ وينتظر ‏{‏بِكُمُ الدَّوَائِرَ‏}‏ يعني‏:‏ صروف الزمان، التي تأتي مرة بالخير ومرة بالشر‏.‏ وقال يمان بن رئاب‏:‏ يعني ينقلب الزمان عليكم فيموت الرسول ويظهر المشركون، ‏{‏عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ‏}‏ عليهم يدور البلاء والحزن‏.‏ ولا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوءهم‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏دَائِرَةُ السَّوْءِ‏}‏ ها هنا وفي سورة الفتح، بضم السين، معناه‏:‏ الضر والبلاء والمكروه‏.‏ وقرأ الآخرون بفتح السين على المصدر‏.‏ وقيل‏:‏ بالفتح الردة والفساد، وبالضم الضر والمكروه‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم‏.‏ ثم استثنى فقال‏:‏

‏{‏وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هم بنو مُقَرِّن من مزينة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ أسلم وغفار وجهينة‏.‏

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أنبأنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار، أنبأنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم الدَّبَرِيُّ، أنبأنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أسلمُ وغِفَارٌ وشيءٌ من جُهَيْنَةَ ومُزَيْنَةَ خيرٌ عند الله يوم القيامة من تَميمٍ وأسدِ بن خُزَيْمَةَ وهَوَازِنَ وغَطَفَانَ‏"‏‏.‏

‏{‏وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ القربات جمع القربة، أي‏:‏ يطلب القربة إلى الله تعالى، ‏{‏وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ‏}‏ أي‏:‏ دعاءه واستغفاره، قال عطاء‏:‏ يرغبون في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ‏}‏ قرأ نافع برواية ورش ‏"‏قُرُبة‏"‏ بضم الراء، والباقون بسكونها‏.‏ ‏{‏سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ‏}‏ في جنته، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏